القاهرة – ( الثقافية )

أحمد شوقي *

بمجرد الاطلاع على السطور الأولى من كتاب “العرض الأخير.. سيرة سيلَما طرابلس” للمخرج والكاتب والأكاديمي اللبناني هادي زكاك، عرفت أن ما يجمعني بالكتاب أكبر من علاقة القارئ العادي أو حتى المتخصص.

فمن جهة، هناك رابط قوي من الذكريات والمشاعر صار بيني وبين طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني والمدينة ذات الماضي العريق والحاضر المتألم، بعد سنوات من حضور مهرجان الأفلام المقام في المدينة، ضيفًا ثم عضوًا في فريق البرمجة، وبالتالي فقد شهدت بعيني آلام مدينة تحاول السينما فيها أن تجد مساحتها وسط واقع اقتصادي عسير واقتتال طائفي يرقد تحت الرماد وتشدد ديني صار عنوانًا للمكان.

من جهة أخرى، نشأت طفلًا في طنطا، المدينة المصرية العريقة التي لا تختلف عن طرابلس ولا عن عشرات الحواضر العربية التي كانت قديمًا تحتضن العديد من قاعات العرض في كافة أحيائها، لتفقد تلك القاعات واحدة تلو الأخرى. وبينما كنت أتابع الأنباء المفرحة عن افتتاح عشرات – بل مئات – الشاشات في المملكة العربية السعودية، كنت أتألم في كل مرة أزور فيها مسقط رأسي لأمُر بموقع “سينما مصر”، أحد أعرق وأفخم قاعات العرض المصرية التاريخية، وقد تحولت ركامًا بعد تنفيذ قرار إزالتها قبل عدة أشهر.
في محيط منزل طفولتي كانت قاعات “مصر” و”أمير” و”ريفولي” و”الجمهورية” و”أوبرا” تعرض أفلامها بلا توقف، فغدت جميعها إما أماكن مهجورة أو قاعات للأعراس (اللهم إلا “ريفولي” التي صمدت بتحويلها في الوقت المناسب أربع شاشات فقيرة تعمل في الأعياد والمواسم). طرابلس أيضًا كانت كذلك وأكثر، ولم تعد!

قاعات عديدة وتاريخ حافل

أربعون قاعة سينمائية يرصدها هادي زكاك في كتابه المنشور عن شركته “زاك فيلمز” بدعم من عدة مؤسسات ثقافية وسينمائية، الشركة التي ستكون بطبيعة الحالة مسؤولة عن الفيلم الوثائقي الذي يعدنا به “العرض الأخير”. فيلم نثق في خروجه بالمستوى اللائق، تارة لمسيرة المخرج صاحب “مارسيدس” و”يا عمري” وغيرها من أهم الوثائقيات اللبنانية خلال القرن الحالي، وتارة لأن قدر الجهد البحثي والأرشيف المصور في الكتاب أمور تكشف بوضوح عن حجم المادة التي يمتلكها زكاك، والتي صاغها في كتاب يروي ما هو أكثر من تاريخ قاعات “السيلَما” الطرابلسية.

و”سيلَما” المذكورة في عنوان الكتاب هي السينما باللهجة الطرابلسية، لهجة المدينة ذات الطبيعة الخاصة الحاكمة لتكوينها؛ فهي أقصى الشمال اللبناني، بما جعل أهلها يطالبون قديمًا – كما يخبرنا الكتاب – بالانضمام لسوريا لا للبنان، وهي “قلعة المسلمين” في بلد مزقته الحرب الأهلية مرتين كما تصفها اللافتات التي يرصدها زكاك، كما تحتضن خط تماس “باب التبانة – جبل محسن” أحد أسخن خطوط الاقتتال السني – العلوي في العالم، نفس الخط الذي كان موقعًا لقاعات سينمائية عريقة، والذي يحاول مهرجان طرابلس للأفلام إقامة عروض سينمائية فيه خلال الأعوام الأخيرة.
نفس هذه المدينة الذي يرتبط ذكرها بأخبار القتال والتفجيرات والتطرف، كانت في الماضي أحد أهم موانئ الشام، وشكلت حاضرة ثقافية لقرون، وامتلكت تلك القائمة الطويلة من قاعات السينما التي جعلت الفن جزئًا لا يتجزأ من حياة أهلها، يتفاعل بشكل عضوي مع ثقافتهم وأخلاقهم وتصرفاتهم. هذا التحدي الذي يخوضه زكاك في كتابه المشكل بالكامل تقريبًا من مداعبة الذاكرة: التفتيش عن مواقع القاعات وتقصي حاضرها المظلم، مطاردة الذكريات في رؤوس أهالي المدينة سواء في شهاداتهم اللفظية أو في إنتاجاتهم المكتوبة، أدبًا ومقالًا، أو في رصد صورة طرابلس السينمائية على الشاشة والورق.

الفن والمجتمع وجها عملة طرابلسية

وإذا كان أجمل ما في فن السينما هي قدرته المدهشة على التسلل للعقول والقلوب، في تعليم البشر دون دروس، وتغيير ثقافاتهم دون عظات، بل بالمشاهدة والتماهي والاستمتاع والتأثر، فإن هادي زكاك، وهو المنغمس بين ذراعي الأمر: السينما والتعليم، يدرك ذلك بوضوح، ويعلم أن حضور السينما في مدينة بعيدة عن المركز يصعب اعتباره مجرد وسيلة للترفيه، بل هو بمثابة تأريخ مواز قد يكون أكثر صدقًا من كتابات المؤرخين.
ما الذي كانت القاعات تعرضه في خمسينيات القرن الماضي؟ وكيف استقبل المجتمع الطرابلسي المحافظ علاقات الغرام والقبلات على الشاشة؟ وكيف تعاملت “سيلَما”، الشخصية الافتراضية التي تعيش في الكتاب ممثلة لقاعات المدينة، مع أوضاع الحروب الأهلية واقتتال الميليشيات وموجات التفجيرات التي لم تتوقف في محيطها طيلة عقود؟ يرصد “العرض الأخير” ذلك وأكثر. يهتم بكل تفصيلة ويحكي ما بين السطور: كيف كانت للسينما دورًا في تغيير ذهنية وأنماط المعيشة في وقت السلم، وكيف صارت ملاذًا لنسيان فظائع وقت الحرب. كيف كانت الأفلام المعروضة (والممنوعة) قياسًا دقيقًا للتوازنات السياسية والعلاقة بدول العالم، وكيف صار لتراخي أيدي الرقابة وسماحها بما كان ممنوعًا دلالات سياسية أكبر بكثير من الرغبة في عرض فيلم ساخن يجذب جمهور المراهقين.
يجعلنا “العرض الأخير” نقع في حب “سيلَمات” طرابلس، فقط لأننا نحب أنفسنا ونحن لذاكرتنا التي تعيش بداخلها مجموعة من تلك القاعات القديمة التي تبدأ دائمًا أنيقة وتتراجع بمرور الزمن. سينما الصالة والبلكون واللودج، ومتاجر المسليات والمشروبات التي تستقبلك قبل دخولك رغم لافتات المنع التي لا يكترث بها أحد. قاعات العرض المستمر والفيلمين في “بروجرام” واحد، والشاشات البالية التي كلما ازدادت ضبابيتها كلما ولّدت المزيد من الأفكار والخيالات والأحلام.
تلك القاعات التي انقرض أغلبها فصارت محض ذكريات في أذهان من عاش زمنها، ونجت ندرة منها بعد أن انقسمت الشاشة العملاقة إلى مكعبات محدودة تفوقها بعض الشاشات المنزلية جودةً وأثرًا، هي شهود من الذاكرة على زمن مضى ومستقبل كان من المفترض أن يكون أفضل. فبينما العالم كله واجه أزمة دور العرض في مواجهة الوسائط المنافسة وتعامل معها بما يضمن للسينما استمرارها، بما يرتبط بها من أفكار وحب للحياة ومناخ عام داعم لحريات الفكر والرأي والتعبير، فإن عالمنا العربي وحده هو من رفعت قاعاته لافتة “العرض الأخير”، أو بالأحرى لم ترفعها لأن الإظلام دائمًا ما يأتي بغتة، إظلام الصالات والشوارع والعقول، في طرابلس كما في طنطا وكافة المدن العربية المنكوبة.

* أحمد شوقي – ناقد سينمائي مصري