روما – ( إيطاليا الثقافيّة ) –

أجرى الحوار: عرفان رشيد

في السابع عشر من آب / أغسطس 2017، وبينما كان الصحفي التلفزيوني الإيطالي لورينسو دي لاس پلاسّاس في برشلونة الإسبانيّة سائحا، وقع حدثٌ مأساوي، عندما انهال إرهابي من داعش بشاحنته على جمهرة من السيّاح الآمنين في العاصمة الكاتالونيّة الشهيرة بتاريخها وناديها الكروي.
تسبّب الحادث بمقتل عدد من السيّاح وجَرح الكثير منهم.

ومُذْ تلك اللحظة، صار لورينسو دي لاس پلاسّاس، دون تخطيط مُسبق، بمثابة عيونَ وآذان أجهزة الإعلام الإيطالية في المدينة المُدماة ونقل منها لحظة بلحظة تفاصيل ما يحدث عبر القناة الإخبارية الإيطاليّة ( راي نيوز 24 – RAINEWS 24 ) التي يعمل فيها.

وبطبيعة الحال لم يكن لحدثٍ من هذا النوع أن يمرّ دون أن يترك ندوبه في قلب وروح أيّ إنسان، فما بالك بإعلامي وكاتب وجد نفسه، دون تخطيط، وسط ساحة حرب.

وقد تزامن الحدث أيضاً من أمرٍ آخر: كان لورينسو قد انتهى للتوِّ من من المسوّدة الأخيرة من روايته الأولى « دَعْ الريح تروي »، وكان على وشك تسليمها إلى دار النشر، فما كان منه إلاّ وعاد إلى ذلك النص ليُعيد كتابة وتحوير الكثير من تفاصيله وشخصياته، وصارت أحداث المشرق العربي وهجوم داعش مفرداتٍ وأحداثاً أساسيّة فيها.

فما الذي حدث، لورينسو، بالفعل، وبالذات للرواية ذاتها؟

” نعم، كما أسلفت أنت، كنت هناك في برشلونة سائحاً عندما انفجر الوضع، فأقدمت على إنجاز مهمّتي المهنيّة، وبعد ذلك وجدْتُني أمام روايتي التي كنت قد انتهيت منها، وتساءلت ما الذي يُمكن أن يتسلّل إليها ما حدث أمام ناظريّ! نعم، ومن بين ذلك تجربتي وحاجتي لرواية ليس الأحداث التي تقع فحسب، بل نقل روحيه ومشاعر الناس والمدينة، التحديق في الوجوه والنظرات وإشباع السمع بصُراخ صفّارات عربات الإسعاف المهتاجة، وكيف كانت المدينة تتحوّل في تلك الساعات. وقد تقاطع الجانب الحميمي والشخصي مع المظهر العام للمدينة، فنقلت كلّ ذلك إلى الجزء السوري من الرواية، وهو الجزء الذي يخصّ أحد شخوص الرواية، «إينياتسيو»، الشاب السرديني الساعي إلى أن يكون إرهابياً، إلتحق بداعش في سوريا لأسباب وقناعات شخصية بحثاً عن والدته المعتقلة في دمشق، وقد أدخلت في الرواية بالذات ما أعتقدت بأنّه يدور في خَلَدِ من يسعى ليكون إرهابيّاً، وأدخلت ما اعتقدتها المشاعر التي تكتنف ذلك الشاب خلال فترة انضوائه تحت لواء التنظيم الإرهابي.
كلّ ذلك تماثل أمامي بعد تجربتي البرشلونيّة“.

إينياتسيو، آوغوستين ولوپو ثلاث شخصيات رئيسيّة في الرواية، وهي شخصيات متباينة فيما بينها سواءٌ في مشاربها، تجاربها، أعمارهماوحتى في الأهداف التي وضعنها لحيواتها، فما الذي يربط في ما بينها؟

”ما يربط بين هذه الشخصيات هو كُنه الرواية نفسها. بمعنى أنّنا نُتابع هذه الشخصيات الثلاثة خلال مسار أحداث الرواية وتبدو، في الظاهر، أن لا شيء يربط بينها؛ فإنياتسيو. كما قلت شابٌ ساعٍ ليكون إرهابيّاً؛ آوغوستين، فنّان خائب الرجاء وحانق على المجتمع الفنّي الذي لم يُقدّر موهبته، لذا يسعى إلى الانتقام؛ أمّا لوپو، فهو صبي في الثالثة عشر من العمر يُقرّر في لحظة ما، وبشكلٍ غامض، الإقلاع عن الكلام مع والديه. لذا، ما الذي يربط بين هؤلاء الثلاثة؟ لا نعلم، وقد نكتشفه خلال الرواية، لكنّ هناك مفردات ترافقنا خلال الرواية توحي إلينا بأنّ هناك آصرة ما بينهم، وهي الآصرة التي تظهر في لحظة ما عبر شخصيّةٍ أخرى، تمتلك القدرة على التحكم بالريح وبملاعبتها، ومن هنا جاء عنوان الرواية « دَعْ الريح تروي »، وفي هذه الشخصية الرابعة ملامح من «الواقعيّة السحريّة»، قد يُدرك القاريء بأنّها تربط ما بين الشخصيات الثلاثة الأخرى، لكن كيف؟ هذا ما نكتشفه فقط في نهاية الرواي. الريح! هي مفردة التحوّل الغامضة، وهي في الوقت ذاته، القوّة الجاذبة في الرواية وما يُحدث التحوّل“.

لقد رويت أحداث الشرق الأوسط عبر عملك الصحفي في قناة «راي نيوز 24»، ولك آصرة خاصّة مع البلاد العربية. إخترت، كفضاء مكاني لروايتك، موقعين لهما تاريخ يضرب في عمق الزمن وفيهما الكثير من القساوة والتراجيديا: جزيرة سردينيا وسوريا. لِمَ هذا الخيار؟

” كيف بالإمكان ألاّ تُحب الشرق الأوسط؟! ألّا تُحب اللبنانيّين، بالذات في هذه الفترة، وكيف بالإمكان ألاّ تُحب سوريّا والعراق بعد كلّ ما حدث ويحدُث؟! إنّها أوطانٌ رائعة بأُناس رائعين ولديها الكثير الكثير ممّا يجمعها ويُقرّبّها من جزيرة سردينيا، وهي مفردات غالباً ما لا ينتبه إليها الآخرون؛ فالناس يعرفون من سردينيا سواحلها الجميلة وبحرها الرائع، لكنّ في سردينيا صروح تعود إلى ثلاثة آلاف سنة، وكثيرون يجهلون بأنّ هناك في سردينيا زقّورة شبيهة بتلك السومريّة، وهي الزقّورة الأوروبيّة الوحيدة وتقع بالقرب من مدينة ساسّاري، كما أنّ في سردينيا توجد معالم كثيرة كـ « دوموس جاناس »، ولا أحد يعلم عنها شيئاً، على عكس السردينيّين، بالطبع، والذين يعلمون ما هي، القلّة القليلة تعلم بوجود المعابد الكهفيّة تحت الأرض التي يُهبط إلى أحشائها بسلالم حجريه، وحيث تشهد في الليالي المُقمرة احتفالاً للقاء ضياء القمر مع مياه البحيرة الكامنة في عمق البئر – الكهف.

هذه المعالم والمفردات السردينيّة بدتْ لي متناسبة لمواجهتها مع معالم ومفردات في سوريا تعرّضت إلى الهدم، أو مع لحق بمفردات في العراق، كتدمير معالم نينوى الآثارية. لقد كان ضرورياً لي أنْ أضع هذين التاريخين الألفيّين في تناظرٍ فيما بينهما“.