الكاتب العراقي إبراهيم أحمد خصّ موقعنا مشكوراً بعدد من القصص القصيرة وقصائد النثر،

سننشرها تباعاً…

أودفالا  – (السويد ) –

 ( إيطاليا الثقافيّة ) –

نصوص جديدة للكاتب العراقي إبراهيم أحمد

قصيدة

الكأس الأخير!

حين جاءه عزرائيل ليقبِضَ روحهُ
كان هو يحتسي خمرته على مهلٍ ويحلم بأيامٍ جميلة قادمة
توسّل إليه أَنْ يتركه ريثما يُكمل كأسَهْ
رق قلبه عليه، فوافقه!
كأسه الأليفة من مطلع العمر، استنفرت كل ما في الزجاج الشفيف من سحر!
صار كلما أوشكتْ خمرته على النفاد يستجلبها من أعماقه الأولى حتى تفور وتملأه!
ملّ عزرائيل من الانتظار
هز كتفه بَرماً ومضى!

قصّة قصيرة

وصية!

وأخيرا مات الشاعر الذي تنقّل بين المنافي كثيرا، لم تبق أرضٌ لم يُقذَف إليها. كان يقول ولِدْتُ وثمة مِدفعٌ ملتصق بظهري دائماً، منذ العشرينات من عمره وهو مرفوض ومنبوذ ومطرود. اليوم وقد بلغ الثمانين لفظ أنفاسه الأخيرة في بلدة صغيرة في السويد تدعى اودفالا، شهد فيها مع زوجته الكثير من فصول حياته الأليمة، كان يقول لزوجته أنتِ أكثرعذابا مني، تحملت صروف الزمن، وصروفي أنا، ومن حسن حظنا أنّنا لم ننجب، فلا أبناءَ يتعذّبون معنا وبعدنا!

لم يترك لها شيئا سوى كتبه، هكذا كانت تظن، طلب إليها أن تتبرع بها للمكتبة العامة في المدينة، هذا إذا قبلتها!

كان قبل أسبوع من موته كان قد سلّمها مظروفا، طلب منها أن لا تفتحه إلا بعد موته، والآن جاء أوانه، كان يتضمن رسالة مقتضبة “آسف يا عزيزتي إنني سبقتك إلى القبر أو إلى ما يسمى الراحة الأبدية، ذلك أفضل لي، كان قاسياً عليّ لو فُجِعتُ أنا بك، معذرة على كل حال، لم أترك لك سوى شيئين:

رزمة الدفاتر القديمة والجديدة التي تضم قصائدي والتي لم ينشر منها سوى القليل بأعذار شتى من محرري الصحف “مشاكسة، متمردة، مجدفة، متطرفة فظة متطرفة غارقة في السياسة إلخ مما تعلمين” وهذه لا تقتضي منك سوى عود ثقاب واحد؛ وكومة ألأحذية العتيقة التي كما تعرفين احتفظت بها لأن لها ذاكرة أدقّ من ذاكرتنا فهي تحمل خارطة المنافي والبلدان التي تنقّلنا بينها، أي طرقُ ودروبُ الآلام كلها، وهذه أرجو منك وضعها في طرد بريدي وإرسالها إلى مقر (الإتحاد العالمي للعدالة الإنسانية)، ستجدين فوقها رسالة مفتوحة يمكن أن تقرئيها وترفقيها معها.

مرة أخرى معذرة إذْ سبقتك إلى عالم الصمت الأبدي،وسأنتظرك هناك يمكنك أن تتأخري على الموعد ما شئت، ولكن لا تأتيني كما كنت تفعلين في الحياة الدنيا: أعني دون أحمر الشفاه!

كانت في بيتونة الشقة الصغيرة كومة الأحذية، حَرِصَ أن يحتفظ بها منذ أول منفى وطئه، ودخل بها السويد بحقيبة خاصة ما جعلهم يشكّون بقواه العقلية ويمنحونه لجوءاً إنسانياً لا سياسياً رغم إنه قضى حياته كلها يُعدُّ نفسه شاعراً مهموماً بالسياسة وبمصير بلده!

وجدت رسالة فوق الأحذية المتعطنة:

إلى أعضاء الاتحاد العالمي للعدالة الإنسانية
تحية حارة من قلب منفي
أهديكم أحذيتي التي تهرأت وأنا أجوب بها المنافي. أعرف أنها غير صالحة للاستعمال، فأنا من عادتي لا أترك حذاءً حتى يتهرأ تماما، لكنها تصلح لاستعمال واحد:

أن تلقوا عليها نظرة واحدة فقط لا غير، فهي، لا الكلمات، قادرة على أن تُريَكُم أين ذهبنا، ومن أين أتينا، كما أن رائحتها فقط هي رائحة مأساتنا كلها.

أقترح عليكم إقامة نصب تذكاري خاص بالمشردين والمنفيين والمقتلعين من ديارهم مكون من أحذيتهم المتهرئة، ويمكن تكون هذه أحدى الدفعات”.!

طوت العجوز الرسالة هزت رأسها مبتسمة متمتمة :

“إنه ينكت حتى بعد موته”!

ولم تستبعد تنفيذ وصيته، لكنها وجدت أنها لم تسمع يوما بشيء اسمه “الإتحاد العالمي للعدالة الإنسانية” ولا أين يكون، ومع ذلك قررت أن تسأل الموظفة التي ترعاها في البلدية، فهم هنا في السويد يقولون، أن البلدية تعرف كل شيء في هذا العالم!