ميلانو – (إيطاليا الثقافيّة ) –

خالد سليمان الناصري*

حين كان رائد وحش في دمشق، كان، باختصار شديد، وَلَدَاً بمُخيِّلة أسطوريَّة، ويكتب شِعْرَاً.
أقصد بكلمة وَلَد تلك المرحلة العُمُريَّة بين الطُّفُولة والمراهقة، وللدِّقَّة منذُ لحظة البُلُوغ الأولى، ولدِقَّةٍ أكثر منذُ أوَّل أوركازم وحتَّى يبدأ بتطبيق المراهقة، علميَّاً تُسمَّى مرحلة المراهقة الأولى.
أيْ لحظة يُخالِطُ نظرةَ الطفلِ البريئة خُبثٌ.

شخصيَّاً أعتقد بأنَّ للشاعر عضواً بشريَّاً، ليس لدى غيره، يظهر له في المراحل المبكِّرة من عُمُره (من الجنينيَّة وحتَّى المراهقة المتأخِّرة)، وتبعاً للمرحلة التي يظهر فيها عضو الشِّعْر هذا يتحدَّد اشتغال الشاعر، لأن ظهوره يتطلَّب لحظةَ إدراك مباغتة، وعلى الأغلب، تكون لحظة إدراك في اللَّاوعي، ولكنها حاسمة، ولها قوَّة المعدن في تشكيل الشاعر. هذا العضو لم يُكتشَف بعد، ولا أستطيع أن أحدِّد أين يقعُ من الجسد، لأنه مخبوءٌ مثل الرغبات، ولكنَّني أكيد أنه يقع، تماماً مثلما تقع الحرب عند رائد وحش حين لا تقع.

أظنُّ أن هذا العضو ظهر لرائد في مرحلة المراهقة الأولى، ومَرَدُّ ذلك نصوصه بالطبع. وهذه للأسف لعنة تصيب الشاعر. أقصد أن يظهر له عضو الشِّعْر في هذه المرحلة، لأنها المرحلة الأعقد في حياة البشر، لِمَا فيها من تقلُّبات ونوبات نَفْسيَّة، ومحاولات لإدراك الذات والوجود، وما إلى ذلك. هي أساساً مرحلة لعنة على الكائن البشري، فما بالكم بمَنْ يظهر له عضو زائد في جسده وخَفِيٌّ، هو عضو الشِّعْر؛ أي أنها لعنة على لعنة.

مَنْ يتابع دواوين رائد منذُ بدايته حتَّى الآن سيكتشف هذه اللعنة التي حلَّتْ عليه حين كان ولداً، وتلبَّستْهُ، وستظلُّ كذلك حتَّى السنة المليار وتسع وثلاثين مليون في الجنَّة (وهو الزمن الذي يتطلَّبه المرء ليبرأ من الشِّعْر عموماً).

لن أتمكَّن، بالطبع، من التفصيل في هذا المقام، ولكنْ؛ سأحاول قدر الإمكان توضيح الصورة التي رسمتُها كقارئ شِعْر لرائد وحش.

ربَّما هذا الافتراض سيُفسِّر لنا تطوُّر الاشتغال عند رائد من ديوان إلى آخر. لن أقول على الأسلوب، فاللَّافت في تجربة رائد أنه منذ كُتُبِهِ الأولى امتلك أسلوبَهُ الخاصَّ، وكأنه لم يبدأ كتابة الشِّعْر إلَّا حين وجد صوتَه الخاصَّ تماماً، ممَّا ساعده كثيراً في عدم الانهماك، بشكل كبير، في البحث عن أسلوب خاصٍّ، في دواوينه اللَّاحقة، بل ظلَّ منشغلاً بتطوير عناصر أخرى في الكتابة، وتحديداً الخيال والأفكار. تطوير قاده للانتقال من الإصرار على الزواج من أنجلينا جولي، إلى حفر حديقة كاملة، فيها تراب يكفي لدَفْن ألف ميتٍ بحثاً عن مقلاعته وسلاحه، حين أدرك أنْ لا حياة لأعزل.

(طبعاً، المقلاعة لمَنْ لا يعرفها هي التي تُسمَّى عربيَّاً القاذفة (نحطُّ فيها حَجَرَاً، ونُلوِّح، ونرميه) … يهمُّني هنا سؤال صغير، لماذا المقلاعة؟ وأجيب: لأنه في مرحلة المراهقة الأولى، عند أبناء المخيَّمات الفلسطينيَّة، المقلاعة هي أقوى سلاح يمكن أن نمتلكه).

شواهد كثيرة تشي بهذا التَّطوُّر في الخيال عند رائد، والتي، ومن الجميل، أنها أسهمت في التنويع على الأسلوب المتين عنده، وليس تغييره. أيضاً، وبطبيعة الحال، رافق هذا التَّطوُّر كبر عُمُر التجربة الشَّخصيَّة، وستكون الحرب السُّوريَّة واحدة من التجارب الحاسمة، لتأتي بعدها تجرب حاسمة أخرى، هي تجربة الهجرة.

من بين كلِّ هذه التَّطوُّرات كانت قضية تطوير المعرفة عند رائد هي أبرز ما يدعم ويعضد النَّصَّ الشِّعْرِيَّ عنده. أنا أعرف رائد شخصيَّاً، ويمكنني القول إن المعرفة عند رائد ليست حاجة، بل هي إدمان، إذا صحَّ التعبير. كلُّ الشعراء يقرؤون، لكنْ؛ رائد حين يقرأ، فهو كَمَنْ يدرس للامتحان. يدرس ليكتشفَ حقيقة هذا العالَم!

يُكرِّر رائد في كلِّ أحاديثه الشَّخصيَّة معنا جملة: يجب أن نجد إجابات.

عليه، تمكَّن رائد بهذه التِّقْنِيَّة، حيث يمشي على أرض ثابتة، هي أسلوبه، وتنمو تجاربه الشَّخصيَّة بينما يمشي، ويُطوِّر معارفه، ليُطوِّر خياله الشِّعْرِيَّ. ثمَّ ولأنه ولد شَقيٌّ، يبدأ بالشقاوة حين يخلق نصوصه الشِّعْرِيَّة، يلعب بلغته، وبالأفكار والمعاني وبالأسئلة الكبرى والصغرى، والإجابات الخاطئة والصحيحة، يذهب للسَّرْد، ويعود للإيجاز، يذهب للمباشرة، ومنها للمجاز. ولا يُوقِفُهُ حَدٌّ، ولا رَادِعٌ؛ لأنه يتَّكئُ على معرفة رصينة وأسلوب ناجز، ما يجعله قادراً على الوصول بنصِّه إلى التناغم الذي فَقَدَهُ أغلب شعراء جيله، ولا يزال يفقده الكثيرون من شعراء الجيل اللَّاحق.

التناغم الذي تحدَّث عنه طاغور حين قال: ما هي حقيقة العالَم؟ ليست الحقيقة في كتل المادَّة، ولا في عدم الأشياء، إنما في صلاتها التي لا نستطيع عدَّها وقياسها وتجريدها. وهي ليست في المادَّة تحت أشكالها المتعدِّدة، بل في التعبير الذي هو واحد. وكلُّ معرفتنا للأشياء ترتكز على توضيعها في علاقتها مع الكون، في هذا التجانس الذي هو الحقيقة.

أخيراً، يشكِّل نصُّ رائد وحش نظرة متفرِّدة إلى العالَم، فرائد ابن جيل ما سُمِّي بجيل الألفية الثالثة، وهو الجيل الذي أطلَّ على العالَم بعد خرابه تماماً، وما إن تمكَّن هذا الجيل من الإمساك بصورة ما لهذا العالَم، بدأ هذا العالَم الخرب ينهار. وبدأ شعراء هذا الجيل بتصوير انهيار الخراب هذا. ذهب الأكثر منهم لاستخدام الموبايل في تصويره في قصائدهم. أمَّا رائد؛ فقد استخدم أظافره وأسنانه وأُذنَيْه ورأسه وطين المخيَّم الفلسطيني وبؤس أبنائه، لا ليُصوِّر العالَم، بل ليخلق صورة يُقرِّبه فيها إلى واقعه الشَّخصيِّ بصلات بعيدة وخيوط طويلة جدَّاً، فامتلأ نصُّه بالتَّوتُّر الذي يأخذ الشِّعْر إلى فضاءات جديدة غير مطروقة بعد.

 

* خالد الناصري، شاعرٌ فلسطيني، مؤسّس ومدير «منشورات المتوسّط» بميلانو