علي عبدالأمير عجام

ثلاثة مبدعين عراقيين علموني الكثير عن الموسيقى: نجيب المانع، علي الشوك وأسعد محمد علي. صحيح أنّ الراحل أسعد محمد علي هو الموسيقي المحترف الوحيد بينهم، لكنه يُصنّف على الأدباء نقدا (كتابه النقدي بجزئين، وعنوان المبحث هذا مأخوذ منه) وكتابة رواية.

هم من طينة مختلفة من الأدباء، تلك التي فهمت الثقافة على إنها منظومة معرفية متصلة، فلا أديب كبير دون أن يكون على اتصال حي ومؤثر مع أشكال الإبداع الفنّي الأخرى.

عملان للمانع (البصرة – 1926- لندن 1992) جرّاني من ياقتي وأنا في مقتبل حياتي الثقافية، ليدلاني على شهوة روحية من طراز رفيع، كتابه عن بيتهوفن، ومقالته الرفيعة عن فن السيدة أم كلثوم بعد أيام من رحيلها.

منذ خمسينيات القرن الماضي العراقية الفيّاضة بموجات من التحديث الفكري، وهو يدعو بعضاً من الأصدقاء المعنيين بقضايا الأدب والفكر، إلى سهرة في داره، للاستماع إلى بعض من أعمال بيتهوفن، رمسكي، كورساكوف، هاندل وغيرهم، إلى جانب إسطوانات بأصوات عمالقة الثقافة العالمية من امثال ارنست همنجواي وألبيركامو، وإلى شيء من مسرحيات وليم شكسبير وجورج برناردشو.

إبن الطبقة المتوسطة

هو نوع من الأنتلجنسيا التي أنتجتها الطبقة المتوسطة، فالرجل شغل منصب مدير “شركة نفط خانقين المحدودة”، ومنها خبر شتى المعارف العلمية والاقتصادية واللغوية الأجنبية (الإنجليزية)، ومن هنا جاءت ترجماته العميقة: رواية «غاتسبي العظيم» لسكوت فترجيرالد، وكتاب «دوستويفسكي» لرينيه ويليك وكتاب «بيتهوفن: دراسة في تطوره الروحي» للمؤلف جي دبليو سوليفان (صدرت طبعة جديدة منه عبر “دار الرافدين” بكرم من مديرها الأستاذ محمد هادي)، وكتاب «مارسيل بروست والتخلص من الزمان» وكتاب «تولستوي» والكتاب البارز لستيفان زفايج «بُناة العالم».

اللافت إن معرفة المانع بلغة شكسبير جاءت بعيداً عن مواضع الدراسة ” تعلم الانجليزية – عن طريق قراءته الكتب القديمة التي كان يبتاعها في سوق الكتب في الزبير والتي كان يعرضها الضباط والجنود الانجليز بعد ان كانوا ينتهون من قراءتها في معسكراتهم في قاعدة الشعيبة، وقد كان في تلك الكتب كثير من كلاسيكيات الأدب الانجليزي التي كان قد سمع بها نجيب في دراسته بثانوية البصرة كمسرحيات شكسبير وغيرها.

في مقدمته لكتاب «بتهوفن: دراسة في تطوره الروحي» يؤكد المعنى الذي جذبني إليه بقوة “ترجمتي لهذا الكتاب إبنة شرعية للحب، حبّ مزدوج، وقد يتورد الحب والجذوة الداخلية في واحدة.. إنّه حبٌ مزدوج، فهناك بتهوفن موسيقيُّ الأعماق وهنالك كتاب سوليفان أحد كاشفي الأعماق”.

وليس بعيداً عن هذا المعنى كانت مقدمة سوليفان لكتابه الذي طبع أول مرة في 1927 ومنها نقرأ: “موسيقى بيتهوفن، أكثر من أي مؤلف موسيقي آخر، تثير حتما نوع الانعكاسات التي ترد في هذا الكتاب. إنها وكما يقول إرنست نيومان، خصوصية مخيلة بيتهوفن التي ترفعنا مراراً وتكراراً، يرفعنا من الموقع الذي نحن فيه. إنها إعادة تقييم ليس فقط لكل اللموسيقى ولكن بل للحياة بأسرها، كل العاطفة وكل الأفكار”.

وهذا التأثير، قد تم الاعتراف بخصوصيته منذ فترة طويلة كوظيفة لأدب أعظم. مثلما هو أيضا، وظيفة أعظم موسيقى، على الرغم كونه (بيتهوفن) ينفذ هذه الوظيفة بطريقة مختلفة للغاية، بل تكاد تكون موسيقى بيتهوفن، الموسيقى الوحيدة القوية بما فيه الكفاية لممارسة ذلك بشكل لا لبس فيه.

هذه الصلة المعرفية بالموسيقى تدعمت عند نجيب المانع بعد تأسيس «الشركة العربية لإعادة التأمين» كشركة مشتركة بين الشركات العربية لإعادة التامين ومنها الشركة العراقية، وكان مديرها الدكتور مصطفى رجب الذي عيّن نجيب في شركته ثم رشحه للعمل بالشركة العربية لإعادة التامين في مركزها ببيروت، حيث سافر نجيب وأقام هناك مع عائلته مختلطاً بالأجواء الأدبية والثقافية التي كانت تعجّ بها بيروت في الستينات وأول السبعينيات، سواء الاجواء الثقافية الشرقية العربية، أو مظاهر الثقافة الغربية حيث ابتدأت المسارح تعرض المسرحيات الاوروبية واللبنانية والقطع الموسيقية والاغنيات الكلاسيكية، وحيث كانت محلات بيع الاسطوانات تتنافس في عرض احدث تكنولوجيات التسجيلات الفاخرة وتكنولوجيا تسجيل الالات المتنوعة. سكن في شقة في (الحمراء) ذات غرف ثلاث مليئة بالاسطوانات الكلاسيك، بما يفوق عددها على الألوف، وبالكتب العربية والشرقية باللغات الانجليزية والفرنسية والعربية، مما أدّى إلى دخوله في مشاكل مالية مع الدائنين بأثمان الاسطوانات وغيرهم من الكفلاء والضامنين، وهي ما كانت سبباً في انهاء علاقة نجيب بشركة التأمين العربية وقيام خصومة بينه وبين الشركة المذكورة ومديريها أدّت الى عودته الى بغداد في السبعينيات ليعمل في حقل الترجمة.

وذلك الشغف بالموسيقى بدأ مبكرا (وتحديدا اثناء دراسته الحقوق ببغداد وتخرجه اوائل خمسينيات القرن الماضي) فقد كتبت عنه شقيقته، الأديبة العراقية المعروفة سميرة المانع والتي لجأ إليها في مقر إقامتها بلندن “يريد من أهله، أن يستمعوا معه الى الموسيقى الكلاسيكية، أنْ يشاركوه حبه وهواياته الجديدة. اسمعهم قطعتي «شهرزاد» و«الدانوب الأزرق»، بداية، في باحة بيت الزبير بالمساء، ثم تدرجت الأنغام حتى وصلت إلى سمفونيات بيتهوفن وغيره منسابة او مرعدة في جو بيت الزبير الصافن الحائر. استمر، كعادته، يُلمّ بالموضوع الإلمام الكافي بصبر دؤوب، حتى تكدست الأسطوانات والتسجيلات عنده ففاقت أعدادها الآلاف، أصبح البيت كتباً واسطوانات اينما سار المرء، كمستودع أو مكتبة عامة في سنوات عمره الأخيرة”.

هوية ثقافية عربية تتصل بالآخر المعاصر

والتوجه نحو الآخر عبر كل هذا الفيض من الترجمات الرفيعة لم يتعارض مع عمق عربيته ثقافةً ولغةً، ففي بحثه «توثيق الارتباط بالتراث» المقدّم إلى مؤتمر الأدباء العرب السابع العام 1969 إشارة توكيدية لهذا المعنى، وهذا ينتقل إلى إنجازه في كتابة القصة القصيرة، فقد كان أسلوبه لا يُخفي التأثر بالتيار الحديث الوافد من الغرب، وتحديدا بين نهايات خمسينيات القرن الماضي وبدايات ستينياته. ومن انجازه القصصي:
* «الممثل يضحك الجمهور» في مجلة “الرسالة” اللبنانية 1957.

* «الأعمى والحذاء» في مجلة «الفنون» العراقية 1958.
* «فولكنر على نهر الغرّاف» في مجلة «المثقف» العراقية 1958.
* «شاعر يعترف» في مجلة «المثقف» العراقية 1958.
* «الدرس الأول» في مجلة «الأديب» العراقية 1961.

وانتقل هذا النسيج القائم على معاصرة لا تخجل من جذرها العربي معرفةً وثقافةً، إلى قراءة نقدية لإتجاهات الأدب العالمي الحديثة. ففي خمسينيات القرن الماضي ومع اندفاع الأفكار حد التلاطم في العراق، كتب نجيب المانع بحثه المفصّل المعمّق عن الروائي الأميركي ايرنست همنجواي في مجلة «الآداب» اللبنانية، وهو بحث جدّي بإمكانه أن “ينهض وحده كتاباً جديراً بأخذ مكانه في المكتبة المعاصرة“.

وانشغل المانع في مطلع الستينيات بالأدب السياسي إلى جانب الألوان الأدبية الأخرى، إذ نشر مقالات وتعقيبات عن الديمقراطية والحرية وما يتصل بهما وما يتفرع عنهما، ممّا أثار ردود أفعال هنا وهناك، وحرّكت أقلاماً للتصدي له، وتحديدا بين أوساط العقائديين قوميين وماركسيين، على الرغم من كونه بدأ حياته الثقافية متأثرا بتيار الماركسية .

وهذا النقد الغاضب للسائد الثقافي عربياً وعراقياً، هو ما واصله لاحقا حتى بعد وصوله إلى المنفى اللندني “نجيب المانع يهدُرُ بما يشبه الاسئلة والاجوبة عن الثقافة والمثقفين العرب، وعن المعرفة الغربية والمعرفة العربية. كان يسأل ويجيب نفسه دون ان ينتظر تعليقا أو استئنافا، يكاد يتطاير الشرر والسخط من كلامه، فهو لا يعثر على الشتيمة المناسبة التي يوجهها الى الشعراء والكتاب والمثقفين العرب الذين يجهلون العلوم والأدب الغربي واللغات والموسيقى”.

ويكاد نجيب المانع أن يختزل معظم خبراته الفكرية والحياتية عبر قصصه وروايته «تماس المدن» فهو “حاول أن يضع خبراته ويُسخّر ثقافته في عمل أدبي قصصي، فكانت له قصص قصيرة ذات طابع تصويري واقعي مأسوي هي ضرب من الكوميديا السوداء، يقف بعضها في ذروة الانتاج القصصي العربي. وحين أراد أن يضع ثقل ثقافته في عمل إبداعي يتحدث فيه عن المدينة بوصفها الأرض التي تتعايش فيها الثقافات بتجانس وتوافق، أخرج روايته الوحيدة «تماس المدن» فجاءت مثقلة بعدد من المشاريع الروائية، ولم تحقق انتشارها أو تستقطب اهتمام النقاد، وقوبلت بالصمت والإهمال. ولم يكن ثمة ما ينوء به ظهره مثل إحساسه بالهيبة أمام الكتابة، والترهّب منها. فكلما أقدم على إعْمالِ قلمه، تمثّل أمامه عظماء الأدب من المتنبي والمعري والجاحظ الى دوستويفسكي وبروست، فترتجف يداه أمام حجم التحدي”.

تبعثر نتاج نجيب المانع، عومل بإهمال يفوق إهمال النقاد ومؤرخي الأدب له في العراق، وغاب عنا شاهد من أكثر الشهود مصداقية لتدوين سنوات من عمر الثقافة العراقية المملوءة بالعطاء، والحافلة بشخصيات أدبية تكاد تقترب من الأسطورة، ولكن غاب عنّا نتاجهم لعِلّةٍ فيهم أو في الظروف التي تحكّمت بوجودهم، نساء ورجالاً. والنتيجة واحدة: ضياع خيوط كثيرة من نسيج ثقافي شديد التناغم على رغم طبيعة عناصره المتضاربة، خيوط تبعثرت في رياح السنوات والأحداث الجارفة تَبَعْثُرَ مبدعيها.

في خريف عام 1992 أغمض نجيب المانع عينيه على كرسيه الهزاز في إغفاءة أزلية، وحيداً في داره في لندن، لا يؤنس وحدته سوى كتابٌ نام على صدره، عاجزاً عن نقل ما شهد من اضطراب في لحظات الصمت الأخيرة.